الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فالأصل في الوصية قول الله _عز وجل_: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ" (البقرة:180)، وأكد ذلك النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه البخاري عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين ولمسلم (ثلاث ليال) إلا ووصيته مكتوبة عنده" متفق عليه.
زاد مسلم: قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
والمراد بالوصية: العهد بشيء بعد الموت من حق أو واجب.
ومع كونها مشروعة في الأصل إلا أن لها أربعة أحكام:
1 – فقد تكون الوصية واجبة وذلك في كل حق واجب على الموصي ليس عليه بينة كشهود يشهدون به لصاحبه، فيوصي به خشية أن يجحده الورثة، أو لا يصدقوا مدعيه، مثل أن تكون عند المرء زكاة لا يعلم بها إلا هو ولا يتمكن من إخراجها في الوقت الحاضر، أو يكون عليه لآخر دين بسبب اقتراض أو مبايعة بأجل أو شراكة بينهما في مال ولا بينة لما تقدم.
2 – وقد تكون مستحبة وذلك في غير الحقوق الواجبة مما هو مشروع كالوصية بإنفاق ثلث ماله أو أقل منه في وجوه البر.
3 – وقد تكون الوصية مباحة وذلك بالوصية ببعض ماله في الوجوه المباحة لكنها ليست من وجوه البر التي تبذل فيها الصدقة كهدية لغني.
4 – وقد تكون مكروهة أو محرمة وذلك إذا أوصى لجهة غير مباحة كالوصية لجهة لهو أو عبث، أو الوصية للأضرحة وتشييد القبور، أو الوصية بإقامة المآتم، أو إقامة الحفلات الغنائية المحرمة، أو الوصية لوارث أو بأكثر من الثلث.
ويشترط لصحة الوصية ثلاثة شروط:
1 – أن يكون المال الموصى به حلالاً؛ فلا تصح الوصية بمال محرم؛ لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً".
2 – أن تكون في ثلث ماله أو أقل ولا يجوز بأكثر منه لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "الثلث والثلث كثير"، والمستحب أن يوصي بأقل من الثلث لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وصفه بأنه كثير، وأوصى أبو بكر بخمس ماله وقال رضيت بما رضي الله به لنفسه الخمس. ويتأكد الاستحباب إن كان في ماله ضيق وله ورثة؛ بل ويستحب ترك الوصية إذا كان المال قليلاً لا يكاد يكفي الورثة؛ لأن الأقربين وهم الورثة أولى بالمعروف، ولقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه.
3 – أن تكون الوصية لغير وارث، لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "لا وصية لوارث" فليس لأحد أن يوصي لولده أو والده أو زوجه، وله أن يوصي لقريب له لا يرث كأخ مع وجود الابن وهكذا. وقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حديث ابن عمر: "إلا ووصيته مكتوبة عنده" يدل على أنه ينبغي على الموصي العناية بتوثيق وصيته وحفظ محتواها من خلال أمرين: كتابة الوصية لتوثيقها وعدم الشك في شيء منها، والثاني: حفظها عنده أو عند من يثق فيه؛ لئلا تضيع.
وقد استحب أهل العلم أن تصدر الوصية بالبسملة وحمد الله والصلاة على نبيه ثم يقول: (فهذا ما أوصى به عبد الله والفقير إليه "ويذكر اسمه" أنه يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور) وأن تضمن الوصية بتقوى الله والصبر على المصيبة، والله أعلم.
الوصية من العقود الجائزة التي يصح فيها للموصي أن يغيرها أو يرجع عما شاء منها أو يرجع عما أوصى به.
والرجوع يكون صراحة بالقول كأن يقول: رجعت عن الوصية.
ويكون دلالة بالفعل مثل تصرفه في الموصى به تصرفا
يخرجه عن ملكه مثل أن يبيعه.
متى تستحق الوصية: ولا تستحق الوصية للموصى له إلا بعد موت الموصي وبعد سداد الديون.
فإذا استغرقت الديون التركة كلها فليس للموصى له شئ لقول الله تعالى: " من بعد وصية يوصى بها أو دين ".
الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط: وتصح الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط أو المقترنة به متى كان الشرط صحيحا.
والشرط الصحيح: هو ما كان فيه مصلحة للموصي أو الموصى له أو لغيرهما ولم يكن منهيا عنه ولا منافيا لمقاصد الشريعة.
ومتى كان الشرط صحيحا وجبت مراعاته ما دامت المصلحة منه قائمة.
فإن زالت المصلحة المقصودة منه أو كان غير صحيح لم تجب مراعاته.
شروطها: الوصية تقتضي موصيا وموصى له وموصى به، ولكل شروط نذكرها فيما يلي: شروطالموصي: يشترط في الموصي أن يكون أهلا للتبرع بأن يكون
كامل الاهلية.
وكمال الاهلية بالعقل والبلوغ والحرية والاختيار وعدم الحجر لسفه أو غفلة، فإن كان الموصي ناقص الاهلية بأن كان صغيرا أو مجنونا أو عبدا أو مكرها أو محجورا عليه فإن وصيته لا تصح.
ويستثنى من ذلك أمران: 1 - وصية الصغير المميز الخاصة بأمر تجهيزه ودفنه مادامت في حدود المصلحة.
2 - وصية المحجور عليه للسفه في وجه من وجوه الخير مثل تعليم القرآن وبناء المساجد وإقامة المستشفيات.
ثم إن كان له وارث وأجازها الورثة نفذت من كل ماله.
وكذا إذا لم يكن له وارث أصلا.
وأما إن كان له ورثة ولم يجيزوا هذه الوصية فإنها تنفذ من ثلث ماله فقط، وهذا مذهب الاحناف.
وخالف في ذلك الامام مالك فأجاز وصية ضعيف العقل والصغير الذي يعقل معنى التقرب إلى الله تعالى قال: " الامر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به.
وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من
القول فوصيته جائة ماضية ".
وقد أجاز القانون في مصر وصية السفيه وذوي الغفلة إذا أذنت بها الجهة القضائية المختصة.
يشروط الموصى له: يشترط في الموصى له الشروط الاتية: 1 - ان لا يكون وارثا للموصي.
روى أصحاب المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث ".
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
وهذا الحديث وان كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول وأجمعت العامة على القول به.
- ومذهب الاحناف أن الموصى له إذا كان معينا يشترط لصحة الوصية له أن يكون موجودا وقت الوصية تحقيقا أو تقديرا.
أي يكون موجودا بالفعل وقت الوصية أو يكون مقدرا وجوده أثناءها.
كما إذا أوصى لحمل فلانة.
وكان الحمل موجودا وقت ايجاب الوصية.
أما إذا لم يكن الموصى له معينا بالشخص فيشترط أن يكون موجودا وقت موت الموصي تحقيقا أو تقديرا.
فإذا قال الموصي: أوصيت بداري لاولاد فلان ولم يعين هؤلاء الاولاد، ثم مات ولم يرجع عن الوصية.
فإن
الدار تكون مملوكة للاولاد الموجودين وقت موت الموصي سواء منهم الموجود حقيقة أو تقديرا كالحمل، ولو لم يكونوا موجودين وقت إيجاب الوصية.
ويتحقق من وجود الحمل وقت الوصية أو وقت موت الموصي متى ولد لاقل من ستة أشهر من وقت الوصية أو من وقت موت الموصي.
وقال الجمهور من العلماء: إن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي انها تصح وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه .
وارثا للميت ".
وخالف في ذلك أبو ثور، أفاده الشوكاني في نيل الاوطار.
3 - ويشترط أن لا يقتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا.
فإذا قتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا بطلت الوصية له لان من تعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وهذا مذهب أبي يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد لا تبطل الوصية وتتوقف على إجازة الورثة.
شروط الموصى به: يشترط في الموصى به أن يكون بعد موت الموصي قابلا للتمليك بأي سبب من أسباب الملك، فتصح الوصية بكل مال متقوم من الاعيان ومن المنافع.
وتصح الوصية بما
يثمره شجره وبما في بطن بقرته لانه يملك بالارث فما دام وجوده محققا وقت موت الموصي استحقه الموصى له.
وهذا بخلاف ما إذا أوصى بمعدوم.
وتصح الوصية بالدين وبالمنافع كالسكن وبالوصية بالحلو.
ولا تصح بما ليس بمال كالميتة.
وما ليس متقوما في
حق العاقدين كالخمر للمسلمين.
مقدار المال الذي تستحب الوصية فيه: قال ابن عبد البر: " اختلف السلف في مقدار المال الذي يستحب فيه الوصية أو يجب عند من أوجبها.
فروي عن علي أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية وروي عنه ألف درهم مال فيه وصية.
وقال ابن عباس: لا وصية في ثمانمائة درهم وقالت عائشة: في امرأة لها أربعة من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم لا وصية في مالها.
وقال ابراهيم النخعي: ألف درهم إلى خمسمائة درهم.
وقال قتادة في قوله " إن ترك خيرا " ألفا فما فوقها وعن علي: من ترك مالا يسيرا فليدعه لورثته فهو أفضل وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة درهم لم يترك خيرا
فلا يوصي " ا.
ه الوصية بالثلث: وتجوز الوصية بالثلث ولا تجوز الزيادة عليه، والاولى أن ينقص عنه، وقد استقر الاجماع على ذلك.
روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا بمكة - وهو يكره أن يموت بالارض التي هاجر منها - قال: يرحم الله ابن عفراء - قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا.
قلت: فالشطر (1)؟ قال: لا.
قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير، إنك إن تدع (2) ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة (3) يتكففون (4) الناس في ايديهم، وانك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في (5) في امرتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك أناس ويضر بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة " (6) الثلث يحسب من جميع المال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الثلث يحسب من جميع
__________
(1) الشطر: النصف.
(2) تدع: تترك.
(3) عالة: فقراء.
(4) يتكففون الناس: يبسطون للسؤال أكفهم.
(5) في: الفم.
(6) كان هذا قبل أن يولد له الذكور.
وقد ولد له بعد ذلك أربعة بنين - ذكره الواقدي، وقيل: أكثر من عشرة ومن البنات ثنتا عشرة بنتا.
المال الذي تركه الموصي وقال مالك: يحسب الثلث مما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدد له ولم يعلم به.
وهل المعتبر الثلث حال الوصية أو عند الموت؟ ذهب مالك والنخعي وعمر بن عبد العزيز أو المعتبر ثلث التركة عند الوصية.
وذهب أبو حنيفة وأحمد والاصح من قولي الشافعية إلى اعتبار الثلث حال الموت.
وهو قول علي وبعض التابعين.
الوصية بأكثر من الثلث: الموصي إما أن يكون له وارث أو لا.
فإن كان له وارث فإنه لا يجوز له الوصية بأكثر من الثلث كما تقدم، فإن أوصى بالزيادة على الثلث فإن وصيته لا تنفذ إلا بإذن الورثة، ويشترط لنفاذها شرطان: 1 - ان تكون بعد موت الموصي لانه قبل موته لم يثبت للمجيز حق فلا تعتبر إجازته، وإذا أجازها أثناء الحياة كان له الرجوع عنها متى شاء.
وإن أجازها بعد الحياة نفذت الوصية.
وقال الزهري وربيعة: ليس له الرجوع مطلقا.
2 - أن يكون المجيز وقت الاجازة كامل الاهلية غير
محجور عليه لسفه أو غفلة.
وإن لم يكن له وارث فليس له أن يزيد على الثلث أيضا.
وهذا عند جمهور العلماء.
وذهب الاحناف واسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، إلى جواز الزيادة على الثلث.
لان الموصي لا يترك في هذه الحال من يخشى عليه الفقر، ولان الوصية جاءت في الاية مطلقة.
وقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على إطلاقه.
وبطلان الوصية: وتبطل الوصية بفقد شرط من الشروط المتقدمة كما تبطل بما يأتي: 1 - إذا جن الموصي جنونا مطبقا واتصل الجنون بالموت (1).
2 - إذا مات الموصى له قبل موت الموصي.
3 - إذا كان الموصى به معينا وهلك قبل قبول الموصى له.
__________
(1) الجنون المطبق هو الجنون الذي يستمر سنة عند محمد، وقال أبو يوسف: هو الذي يستمر شهرا وعليه الفتوى.
الوصية الواجبة صدر قانون الوصية الواجبة رقم 71 لسنة 1365
هجرية وسنة 1946 م وقد تضمن الاحكام الاتية: 1 - إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكما بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثا في تركته لو كان حيا عند موته، وجبت للفرع وصية في التركة بقدر هذا النصيب في حدود الثلث، بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض من طريق تصرف آخر قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه ما أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله.
وتكون هذه الوصية لاهل الطبقة الاولى من أولاد البنات، ولاولاد الابناء من أولاد الظهور (1) وإن نزلوا،
__________
(1) وهم من لا ينتسبون إلى الميت بأنثى.
على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، وأن يقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل قسمة الميراث كما لو كان أصله أو أصوله الذين يدلي بهم إلى الميت ماتوا بعده وكان موتهم مرتبا كترتيب الطبقات.
2 - إذا أوصى الميت لمن وجبت له الوصية بأكثر من نصيبه كانت الزيادة وصية اختيارية، وإن أوصى له بأقل من نصيبه وجب له ما يكمله، وإن أوصى لبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له
من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له ويوفى نصيب من أوصى له بأقل مما وجب من باقي الثلث، فإن ضاق عن ذلك فمنه ومما هو مشغول بالوصية الاختيارية.
3 - الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا، فإذا لم يوص الميت لمن وجبت لهم الوصية وأوصى لغيرهم استحور كل من وجبت له الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة إن وفى وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم.
طريقة حل المسائل التي تشتمل على الوصية الواجبة: 1) يفرض الولد الذي مات في حياة أحد أبويه حيا وارثا ويقدر نصيبه كما لو كان موجودا.
2) يخرج من التركة نصيب المتوفى ويعطى لفرعه
المستحق للوصية الواجبة إن كان يساوي الثلث فأقل، فإن زاد على الثلث رد إلى الثلث ثم يقسم على الاولاد للذكر مثل حظ الانثيين.
3) يقسم باقي التركة بين الورثة الحقيقيين على حسب فرائضهم الشرعية.
من كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق رحمه الله .
السبت، 10 أبريل 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق