دكتور سعبد إسماعيل على
منذ
عدة سنوات، كنت أتحدث مع ابنتي عن اهتمامي الشديد بأن أطلع على "تعقيبات"
القراء على ما ينشره لى أحد المواقع الإلكترونية من مقالات، وكانت حفيدتي،
الطالبة بالمرحلة الإعدادية في ذلك الوقت، حاضرة الحديث، فإذا بها تسأل عما
أعنيه بكلمة "تعقيبات"؟! فأجابتها أمها بأنها تعني Comments، وكانت
الحفيدة بإحدى مدارس اللغات؛ حيث أظهرت ارتياحها بفهم الكلمة العربية.
شغلنى الموقف بعد ذلك؛ لدلالته على "عوار" ثقافي
وطني مؤسف، وهو يصور بتلخيص شديد تطورًا ثقافيًّا مهمًّا: فالجد- كاتب هذه
السطور- الذي بدأ تعلمه في مدارس الأربعينيات من القرن الماضي، والتي سبقها
تعلم حفظ في "الكتاب" لبعض أجزاء القرآن الكريم، يقول بكلمة عربية فصيحة،
والابنة التي تعلمت في مدارس حكومية في السبعينيات، قبل أن تتدهور أحوالها
وأحوال الوطن، تفهم الكلمة، لكنها لا تستخدمها، أما الحفيدة التي بدأت
تتعلم منذ أواخر التسعينيات، في مدرسة تُعَلم المقررات باللغة الإنجليزية،
استغربت الكلمة، ولم تفهم معناها إلا عندما قيلت لها بالإنجليزية.
لم يستغرق الموقف إلا دقيقة أو دقيقتين، لكنه
يلخص تطورًا ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا ليس في صالح المصلحة الوطنية،
ذلك أن اللغة بالنسبة للجماعة الوطنية ليست مجرد حروف وكلمات، ولكنها تلخص،
من خلال هذه الحروف والكلمات كما يصعب حصره من الموروثات الثقافية،
والمعاملات الاجتماعية، والمفاهيم والقيم والعادات والتقاليد، والمعارف
والاتجاهات والميول والمهارات التي تشكل في جملتها "الثقافة" بمفهومها
الواسع؛ حيث يلخصها أحد العلماء بأنها كل ما أنتجته يد الإنسان وعقله
وقلبه.
وهكذا، فإن "ضياع" مساحة من أرض اللغة الوطنية،
لا يقل خطورةً عن ضياع مساحة من أرض الوطن الجغرافية الملموسة، مع فرق مهم،
وهو أننا نفزع لضياع النوع الثاني ولا يقر لنا جفن إلا بتحريره وإعادته،
بينما لا نشعر بالقلق نفسه، بالنسبة للنوع الأول.
وحتى يتضح لنا الفرق بين أمم تعي خطورة القضية
وأمم لا تعيها، أنقل للقارئ عبارة قالها مسئول ياباني، في ندوة عُقدت بكلية
الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت أرأس إحدى جلساتها؛ حيث قال هذا المسئول:
إن اليابان إذ تهتم اهتمامًا شديدًا بتعليم أبنائها اللغة الإنجليزية، حتى
يكونوا على اتصال بحركة التقدم العلمي والتقني العالمية، لكنها في الوقت
نفسه تحرص أشد ما يكون الحرص على أمرين آخرين: تمكين الأطفال اليابانيين من
اللغة اليابانية نفسها، والأمر الثاني: "الروح اليابانية"، أو ما قد نعبر
عنه بالهوية الثقافية، أو "الذات الوطنية".
نستشهد بهذا الموقف البسيط في كلماته، الغزير في
معانيه؛ لأن قومنا، منذ السبعينيات، إذ بدأ الانفتاح على العالم الغربي
بصفة خاصة، بدا الإلحاح على ضرورة التوسع فى تعليم اللغات الأجنبية عامة
والإنجليزية خاصة، وهو الأمر الذي لا يستطيع أحد أن يشكك في قيمته وجدواه،
لكن المشكلة الكبرى، هي أن قومنا خلطوا بين أمرين: تعليم اللغة الأجنبية،
وهو الأمر الجيد فعلاً، والتعليم بها، وهو الأمر المؤسف حقيقة.
وإذ بدأت أسباب الانقطاع بين ملايين من المصريين
ولغتهم العربية الصحيحة، وخاصة من الشباب، بدأ الانقطاع عن الكثرة الغالبة
من مصادر الثقافة العربية الأصيلة؛ بحيث يندر أن يقرأ أحد منهم لطه حسين
والدكتور هيكل والعقاد والرافعي والمفلوطي ورشيد رضا وشوقي حافظ وخليل
مطران، وغيرهم، فما بالك بمشاهير العرب قبل قرن من الزمان؟! وفي الوقت
نفسه، تنفتح الأبواب على مصراعيها لاستيعاب مصادر الثقافة الغربية.
إن استيعاب مصادر الثقافة الغربية أمر مطلوب
وضروري، لكن الاكتفاء به، وإدارة الظهر لمصادر الثقافة العربية، تضييع
للذات ومسخ للهوية.لقد كان أساتذتنا- ممن تعلموا قبل الثلاثينيات
والأربعينيات من القرن الماضي- يتعلمون بلغة أجنبية، لكنهم في الوقت نفسه،
كانوا يقضون فترة غير قصيرة، قبل الالتحاق بالمدرسة، يتعلمون القرآن الكريم
في الكُتاب، فضلاً عن المناخ الثقافي العام الصديق للثقافة العربية
الإسلامية، ولغتها، مما جعلهم يجمعون بين الحُسنيين، وتستطيع أن تلمس هذا
فيما قاموا بترجمته من الأجنبية إلى العربية، لا تشعر بأن الكتاب مترجم،
على عكس ما يحدث الآن، عندما تقرأ كتابًا مترجمًا، قلما تفهم منه شيئًا؛
لأن مترجمه أتقن الأجنبية، لكنه لم يتقن العربية!.
إن الأمر خطير للغاية، ومن العسير أن نوفيه حقه
من التناول من خلال هذا المقال، أو حتى عدة مقالات، فقد تعددت الأسباب التي
أدت إلى تراجع مخيف للغة الوطنية؛ مما جعل الأمر وكأنه طوفان جرف الجميع،
حتى نحن، لم نجد بدًّا من تعليم أحفادنا باللغة الأجنبية!! ولعل أبرز عوامل
هذا الطوفان: الخطاب السياسي، الذي خاصم اللغة العربية السليمة، خلال ستين
عامًا من حكم العسكر؛ حيث نجد عشرات الملايين من أبناء الوطن يهتمون
بسماعه، ومن ثم تتعود الأذن القومية طوال هذه العقود سماع اللغة الخاطئة،
ويترسخ هذا فيصبح وكأنه هو الأصل!.
وبدلاً من أن يسمع المستمع إلى عبد الوهاب يغني
الجندول، وكليوبترا، والكرنك، وتغني أم كلثوم رباعيات الخيام، والأطلال،
وولد الهدى، نجد المستمع المصري يسمع: أنا مش خُرنج، أنا كنج كونج، و" كوز
المحبة اتخرم، إديله بونطة لحام"!.
وأينما سار المصري، في أي مكان، تصافح عيناه
لافتات زاعقة، كلها، على وجه التقريب، تسمي الأمور بلغة أجنبية، وربما كتبت
الاسم الأجنبي بحروف عربية.
وحدِّث ولا حرج عن الإعلانات التي تملأ الصحف؛
حيث يستحيل أن يخلو إعلان من أخطاء فاحشة؛ إذ تقع عليها عين القارئ، تستقر
في وعيه ووجدانه، ممثلة "المستوى" الذي يكون عليه.
أما معلم اللغة العربية، فهو يحتاج إلى حديث
طويل، وخاصة من جانب واحد مثلي يعمل في أعرق مؤسسة لإعداد المعلم منذ أكثر
من نصف قرن، ويقر ويعترف بأن كليات التربية هي أحد المصادر الرئيسية لتدهور
اللغة العربية لدى ملايين الأبناء في المدارس المصرية!.
في الوقت الذي تجد فيه حرصًا على ألا يستكمل
الباحث في الجامعات المصرية دراساته العليا قبل الحصول على شهادة تثبت
إتقانه للغة الأجنبية، لا نجد الحرص نفسه على إتقانه للغة الوطنية، ومن هنا
تقرأ رسائل الماجستير والدكتوراه، بل بحوث أعضاء هيئة تدريسن فتكاد تشك أن
الكاتب يعرف لغته الوطنية: العربية!.
إنني أشعر بسعادة غامرة، كلما سمعت الدكتور محمد
مرسي يتحدث، فهو أستاذ الهندسة، الذي حصل على الدكتوراه من إحدى كبريات
الجامعات الأمريكية، ومع هذا حريص على التحدث بالعربية الفصيحة، ونادرًا ما
يخطئ، وإن أخطأ يبادر هو نفسه بتصحيح الخطأ، ومن هنا يبدأ المصري يتعود أن
يسمع أعلى مستوى في القيادة السياسية يتحدث العربية الفصيحة السليمة؛ فهل
هذه هي القطرة التي تشكل أول الغيث لإنقاذ العقل العربي في مصر؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق